Friday, February 17, 2017

ابنتى (يوسف محمد)


  • أربعة سنوات من عمرى قضيتها مع زوجتى الأولى وحبى الأول ، فى بداية العام الثالث من زواجنا صُدِمْتُ بحقيقة أليمة وهى عدم قدرتى على الانجاب ، ومرَّت الأيام ونحن نقيم معاً ، ولكن نشأ بيننا حاجز كان ارتفاعه يزداد يوماً بعد يوم ، وفى أقل من عام كنّا قد انفصلنا كى أهرب من عذاب الضمير ، ولأمنح زوجتى الفرصة لتصبح أماً وهو شعور لا أقوى على سلبها إياه طوال العمر ، افترقنا وكلٍ منا يتمنى للآخر السعادة فى حياته الجديدة ، ولكننى كنت على يقين بأنَّ هذا الانفصال هو نهاية الحياة بالنسبة لى.
    ابتعدت عن الأصحاب والمعارف ، وأيامى انقسمت إلى عمل فى النهار وتعبد فى الليل ، لم أعد أتحدث إلى أحد ولم أرغب فى رؤية أحد ، أصبحت أجد الراحة فقط عندما أبكى فى صلاتى ليلاً بعد أن يبتهل قلبى إلى الله أن يُذهب همّه ، ومرَّت عدة سنوات وأنا على هذا الحال ، ورغم أنَّ نوبات بكائى قد قلَّت لكننى أصبحت شديد التأثر ، فعيناى تدمعا فى اليوم الواحد أكثر من مرة ، وربما لأبسط الأسباب ، وسواء لأسباب تخصنى أو تخص غيرى ، حتى عندما يمازحنى أحد الزملاء أجد أنَّ عيناى تدمعا أيضاً.
    فى أحد الأيام قابلتها .. قابلت الإنسانة التى أعادت إلىَّ الحياة بمجرد النظر اليها .. إنَّها زوجتى الثانية والأخيرة .. نعم إنَّها والدتك ، فهى الشخص الوحيد الذى أعاد إلىَّ البهجة ، أصبحت أبتسم بدون دموع ، وأضحك بدون ألم ، ولم أعد أرى نظرات السخرية فى أعين الناس .. فمنذ إشراق وجهها على حياتى أصبحت حياتى نهاراً بلا ليل ، وسعادة بلا حزن.
    كانت والدتك وقتها موظفة جديدة أُضطرّت إلى العمل وتركك مع والدتها رغم أنَّك كنت مازلت طفلة رضيعة لا يتجاوز عمرها الثلاثة أشهر ، وذلك  بعد وفاة زوجها – والدك - رحمه الله ، وكانت تحاول جاهدة الإنغماس فى العمل ، ولكنها لم تستطع إخفاء حزنها على زوجها أو إنشغالها بك وقلقها عليك طوال الوقت.
    مرَّت الأيام وأنا أحاول التقرب منها ، وأصبَحَت تحدثنى عنك وعن كونك كل حياتها ، وأنَّها لا تشعر أنَّها تحيا إلَّا وهى بجانبك ، كانت عندما تبتسم أشعر بأنَّنى صرت شاباً مرة أخرى ، ولم أعد أقدر على إبعاد نظرى عنها مادامت متواجدة معى فى نفس المكان.

    وجاء اليوم الحاسم ، حيث قررت أن أُعبِّر لها عن حبى ورغبتى فى الاقتران بها إلى الأبد ، لم أتركها للتردد وصارحتها بأنَّنى لا أستطيع الإنجاب وأنَّ ابنتها الوحيدة ستكون  مثل ابنتى تماماً ، رجوتها أن تمهل نفسها وقتاً للتفكير قبل أن ترفضنى ، وابتسمت لى الحياة من جديد ووافقت والدتك على الزواج منى لتمنحنى فرصة جديدة للحياة.
    فى أول زيارة لمنزل جدتك - وذلك لطلب الزواج من والدتك رسمياً - رأيتك وكان عمرك وقتها قرابة العام ونصف ، منذ أول لحظة أدركتُ أننى وجدت الابنة التى كنت أحلم بها ، وقتها اقتربتى منى وسمحتى لى بحملك وهذا ما لم يحدث مع أحد آخر غير والدتك - على حد قولها آنذاك - وفرحت والدتك بشدة عندما عانقتينى بعد ذلك ، وأثناء هذا العناق المفاجىء توقفت نبضات قلبى لوهلة ثم ما لبثت أن عادت ولكن لتنبض بإيقاع جديد فقد أحسست بشعور لم أشعر به من قبل .. لقد أصبحت أباً.
    تمَّ الزواج سريعاً ، وانتقلنا سوياً - أنت ووالدتك وأنا - إلى منزل جديد حيث لم أرد أن يربطنى أو يربط والدتك أى شىء بالماضى ، ومرَّت الأيام سريعاً ونحن فى حب وسعادة ، وأصبحت زوجاً لأجمل امرأة وأباً لأجمل طفلة ، هل تتذكرين عندما كنت أسرد لك القصص كل يوم قبل نومك ، لقد كانت هذه أسعد لحظات حياتى حيث كنت أراك محلقة بخيالك فى عالم الحكايات الساحر.
    و مرَّت الأيام لأصبح أباً لأجمل فتاة ، ولكننى لم أعد سعيداً ، فقد ابتعدت عنى ابنتى ، وأصبحت نادراً ما تجلس معى ، بل وتبتر حديثها مع والدتها فور وصولى ثم تغادر المكان بعد ذلك بثوانٍٍ معدودة ، واستبدلت كلمة بابا التى كانت تبهج قلبى قبل أذنى بكلمة حضرتك والتى تقبض قلبى قبل أن تصل إلى أذنى ، وعندمااشتكيتُ لوالدتك من هذا الأمر أجابتنى بأنَّها أمور طبيعية تحدث للبنات فى هذا السن ، وأنَّه ومع مرور الوقت ستعود الأمور إلى طبيعتها ، وأقنعت نفسى بكلامها ولكننى لم أستطع مقاومة الحزن والأسى الناتج عن هذه الحالة الغريبة.
    ومرَّت السنوات ببطء وثقل خانق فقد ظللتُ أحاول التقرب منك ، ولكننى كنت أرى ابنتى الوحيدة تبتعد عنى أكثر فأكثر ، ويوماً بعد الآخر نضبت أفكارى ولم أستطع التوصل إلى طريقة أعيدك بها إلى سابق عهدك ، ورغم أنَّ وجود والدتك بجانبى خفف عنى قليلاً إلَّا إنَّنى لم أعد أحتاج إلى الزوجة فقط .. فأنا أب يفتقد ابنته بشدة رغم أنَّها أمام عينيه.
    وبلغنا اليوم الذى أعتقد أنَّك تتذكريه جيداً ، اليوم الذى لو خُيّرت بأن يمرّ بى أو أُقتَّل مائة مرة لاخترت أن أُقتَّل ولو لألف مرة ، إنَّه اليوم الذى أتمّت فيه ابنتى عامها الثامن عشر ، والذى أردتُ أن أحاول فيه من جديد أن أعود أباً لها ، فقمت قبله بفترة بسحب جزء من مدخراتى ، واشتريت سيارة جديدة لابنتى الحبيبة ، وأجلت ميعاد الاستلام إلى اليوم المرجو ، وأبقيت الأمر سراً حتى على زوجتى.
    لم أذهب يومها إلى العمل رغم خروجى من المنزل فى نفس الميعاد ،  ولكننى كنت قد عزمت أن يكون هذا اليوم يوماً خاصاً جداً يجمعنى بأسرتى الصغيرة ، وبعد أن قمت بشراء مستلزمات الاحتفال ، وتسلَّمت السيارة الجديدة لأعود مسرعاً إلى المنزل ومتلهفاً لمفاجأة أحبائى ، ولكنهما فاجأتانى بما هو أعظم .. فقد كنتِ ووالدتك تتهامسان فى غرفتك كالعادة ، ولكن للأسف الشديد لم يكن همساً بل كان مناقشة بصوتٍ عال حتى أنَّكما لم تلحظا وصولى ، وسمعت ما لم أكن أتوقع .. كنتى تُبدى لوالدتك تعاطفك معى وأنَّكِ أحياناً كثيرة تتأثرى من جراء معاملتك الجافة لى .. وقتها سعدت كثيراً وأحسست أنَّنا سنعود أباً وابنته ، ولكن لم يدم هذا الأمل للحظات حيث وجدت والدتك تؤكد لك أنَّ ما تقومين به هو التصرف السليم وهو ما يدعو إليه الدين فأنت لا تربطك به أيَّة صلة سوى إنَّه زوج أُمك !!
    قبل أن تكمل جملتها وجدت يدى قد أسقطت ما كانت تحمله ، فأدركتما وجودى ولكننى أعتقد أنَّكما لم تدركا تماماً ما أحسست به ، لقد كنتُ كمن يحلم بالجنة ويستيقظ ليجد نفسه حبيس النيران ، اغرورقت عيناى بدموع قلبى ولم أستطع الحراك أو حتى الكلام ، لم أسمع ما قالته والدتك حينها فقد كنت أسترجع ذكريات حياتى الواهية ، وكيف أنَّ الإنسانة التى شاركتها كل تلك السنين ترانى حتى الآن غريب عن ابنتها ؟ كيف تسلبنى شعور الأبوة وهى تعلم جيداً ماذا يعنى لى ؟ كيف خُدعت كل تلك الفترة وأقمت مع شخص يتعامل معى كأنَّنى قالب بلا قلب ؟ انصرفتُ بعد بضعة دقائق مرت على كالدهر ، ولم أعرف ماذا أفعل ؟ أو إلى أين أذهب ؟
    والآن وبعد مرور شهر أو أكثر على هذا الحادث .. أردت أن أكتب لك هذا الخطاب .. ليس من أجل العتاب أو اللوم .. ولكن لمحادثتك ولو لمرة أخيرة، لقد تنازلت عن منزلنا لوالدتك وقمت بتطليقها وستحصل على حقوقها كاملة كما يدعو إليه الدين ، أما المفاتيح التى مع الخطاب فهى سيارتك التى لم أستطع إهدائك إياها فى وقتها بسبب ما حدث فى ذلك اليوم.
    أما بالنسبة لى - إذا أردت المعرفة ولو على سبيل المجاملة - فأنا فى طريقى الآن إلى المطار للقيام بفريضة الحج ، والتى آمل أن يغفر الله لى فيها إسائتى لكما بمشاعرى التى أثقلت عليكما بها طوال السنين الماضية ، رجاء أن تسامحينى فرغم أنَّنى لست والدك إلَّا أنَّه رغماً عنى وللأبد ستبقى ابنتى الحبيبة.
    تتابعت الدموع من عينيها وهى تقرأ الخطاب كلمة بعد الأخرى حتى انهارت تماماً بنهاية الخطاب ، أسرعت إلى المطار محاولةً اللحاق به ، ووصلت إلى المطار وهى مازالت تبكى ، وأسرعت إلى صالة المغادرة ولكن طائرته كانت قد أقلعت بالفعل ، وقفت للحظات وهى ممسكة بالخطاب تتابع الأسطر بدموعها ، ثم ما لبثت أن ابتسمت فقد قررت أن تنتظر حتى يصل إلى الأراضى المقدسة لتتصل به وتعتذر له ويعودا من جديد كما كانا من قبل .. أباً وابنته.
    التفَّت لتغادر المطار إلى المنزل فإذا بها تجد تجمهر من الناس ووجدت نفسها تقترب منهم بسرعة ولا تعرف لماذا نبض قلبها بسرعة وبدأ جسمها فى الارتجاف ، وصلت إلى جمع الناس واقتحمت الزحام لتجد شخص فى ملابس الإحرام يجلس على المقعد وقد فارق الحياة ، أجهشت بالبكاء قبل أن ترفع رأسها لتنظر إلى وجهه ، فلقد عرفته .. إنَّه هو .. لقد غادر بلا عودة .. لقد ذهب إلى حيث الراحة من شرور الناس .. لقد مات مُمَزَّق القلب والروح.
    لم تتمالك نفسها وهى تقترب منه لتحتضنه فإذا بها تسقط عليه وتنخرط فى البكاء ، جاء صوت من خلفها .. هل تعرفيه ؟ بعد فترة ردَّت بكلمات مُقَطَّعة من الألم .. آه .. آه ، واحتضنته بقوة وهى تُردد .. أنا ابنته .. ابنته .. ابنته.

    يوسف محمد


No comments: